لم تشفع للطبيب الفلسطيني عز الدين أبو العيش مهنته، ولا علاقاته الوثيقة بالمجتمع الطبي في إسرائيل، ولا حيادية مواقفه السياسية، في أن يسلم هو وبناته الثمان من قصف الدبابات الإسرائيلية خلال قصفها الأعمى على قطاع غزة مما أدى إلى مقتل 3 من بناته اللاتي فقدن أمهن و3 من أفراد عائلته.
كان أبو العيش يدخل ويخرج من غزة بتصريح خاص خوله له تخصصه الطبي، وتنقل بين مستشفيات إسرائيل في بئر السبع، قبل أن ينتقل للتخصص في مهنته في مستشفى شيبا قرب تل أبيب، وأظهر براعة وتقدما في سلم التطور العلمي جعلت إدارة المستشفى تضمه إلى طاقم الباحثين.
وفي السنوات الأخيرة أجري بحثا مشتركا مع الطبيبة اليهودية، ليئات ليرنر ـ جيبع، حول العوائق التي يواجهها الأطباء الفلسطينيون في علاج الأطفال المرضى والمصابين، والتي تشير إلى أن الطفل الفلسطيني يمكث في المستشفى أكثر من الطفل الإسرائيلي بسبب العقبات التي يفرضها الواقع الفلسطيني في ظل الاحتلال والحصار.
طبيب طوارئ متطوع
وشاءت الأقدار أن تكون حياته حقلا واقعيا لتجربة البحث الذي كان يجريه مع زميلته الإسرائيلية، فقد أصيبت إحدى بناته بشظية في رأسها وصعب عليه الوصول إليها بسبب الوضع الأمني والعسكري فكانت تعالج في مستشفى بعيد عنه دون أن تتاح له رعايتها والقرب منها، مع أنه كان لها ولأخواتها الثمان الأب والأم بعدما توفيت أمهن بمرض السرطان. وتأكد فعلا أن الأطفال الفلسطينيين يمكثون في في المستشفى أكثر من الإسرائيليين بشرط واحد وهو أن يبقوا على قيد الحياة.
آمن بمهنته وعمل من أجلها فكان -وفقا لتقرير نشرته يومية الشرق الأوسط اللندنية في عددها ليوم الأحد 18-1-2009 - يدخل إلى إسرائيل في مطلع كل أسبوع، ويمضي ثلاثة أيام من العمل والبحث ثم يعود إلى غزة، حيث يمضي الوقت مع عائلته ويعالج نساء غزة. ورغم تعاطيه مع الإجراءات والتعقيدات التي يفرضها الاحتلال، ومعاناته من احتجاز الجنود له في المعابر عند كل دخول أو خروج، فإنه لم يدع اليأس يتسرب إلى إرادته من هذا العناء الشخصي وصبر لكي ينجز البحث على أمل أن يؤدي إلى تحسين أوضاع أطفال بلده. وساقته إحدى رحلاته الطبية العائلية يوم الخميس الذي سبق الهجوم إلى غزة، كالمعتاد، فنشبت الحرب في يوم السبت الذي يليه، ولم يتمكن أو لم يرغب في الذهاب إلى المستشفى وفضل البقاء مع أولاده.
لم تثنه المخاطر ولا صعوبة ظروف الإسعاف والإنقاذ بغزة، فتطوع للعمل طبيب طوارئ في سيارة إسعاف، يتنقل من بيت مهدوم إلى آخر، تحت خطر قصف الصواريخ والقذائف الإسرائيلية. وكان بذلك يعرض حياته للخطر في كل ساعة، وشهد بعينيه كيف قصفت إسرائيل العديد من سيارات الإسعاف (26 سيارة، قتل فيها 13 عنصرا من الطاقم الطبي وجرح 27) ولم يثنه ذلك عما آمن به وعمل من أجله.
لكن هذه المرة لم يكن الطبيب أبو العيش المسعف بل كان هو وعائلته الضحية، فلم ترحم قذائف الدبابات أحلام بنات الدكتور أبو العيش حيث كانت كبراهن تستعد للدخول إلى الجامعة والثانية تطمح لأن تصبح طبيبة والثالثة أرادت دخول عالم الصحافة، فقد قضت على كل تلك الأحلام قذيفة عمياء من دبابة إسرائيلية أودت بتلك الأحلام وبالرؤوس التي تحملها، فقتلت ثلاثتهن على الفور، وقتلت شقيقته وولدي شقيقه وأصابت جميع من كان في بيته بالجراح، وإحداهن ابنته المتوسطة فقد أصيبت هي أيضا بجراح خطيرة، بالإضافة إلى تهدم البيت.
نافذة إعلامية
لم تقتصر مهمة أبو العيش على الإسعاف والإنقاذ ومعالجة المرضى بل كان أيضا نافذة إعلامية من النوافذ القليلة المستقلة التي بقيت مفتوحة تجاه الإعلام الإسرائيلي في ظل التعتيم الذي فرضه الجيش الإسرائيلي، وكان يصف بصدق ما يشاهده من مآس وضحايا بين صفوف المدنيين. فقد ربط زملاؤه الأطباء والباحثون في المستشفى الإسرائيلي بينه وبين التلفزيون الإسرائيلي التجاري (القناة العاشرة) وعدد من الصحافيين الاذاعيين، وأصبح يقدم تقريرا يوميا لوسائل الإعلام الإسرائيلية عن الأوضاع المأساوية في قطاع غزة، وبذلك قدم أبو العيش خدمة كبيرة لقضية شعبه، واكتسب مصداقية عالية في إسرائيل لكون تقاريره دقيقة وصادقة، وموقفه المبدئي واضح فهو ضد العنف بكل أشكاله ومن جميع الأطراف ولم يتردد في توجيه انتقاد ذاتي لسياسة حماس في غزة وليس فقط لإسرائيل وجرائمها.
وقد نقل يوم الثلاثاء الماضي جزءا من مأساته الخاصة، فعندما كان يتكلم في برنامج إذاعي مع الصحافيين، رافي ريشف ونتان زهافي، قطع البث فجأة وهو يخبرهم أن دبابة تصوب فوهتها نحو بيته وأنه يشعر بأنهم سيطلقون القذائف نحو بيته، ثم اتصل بالصحافي شلومو الدار، مراسل الشؤون الفلسطينية في القناة الإسرائيلية العاشرة، وأخبره بذلك. وقال إنه و25 شخصا من أفراد عائلته وعائلة شقيقه وأقربائه يعيشون حاليا في البيت وإنهم لا يجرؤون على رفع الراية البيضاء خوفا من أن يقتلوا مثلما حصل لفلسطينيين آخرين، وإنهم منبطحون على بطونهم في البيت، لا يقوى أحدهم على رفع رأسه بمن في ذلك الأطفال، حتى لا تقصفهم الدبابة الإسرائيلية. وقطع البث فبادر الصحافيون الثلاثة للاتصال بالناطق بلسان الجيش في محاولة لوقف الاعتداء، ولكنه لم يساعد، فاتصلوا بزميلهم روني دانئيل، المراسل العسكري للقناة التجارية المنافسة (القناة الثانية)، الذي كان يوجد لحظتها في مقر القيادة الجنوبية للجيش، ونجح هذا في إقناع قيادة الجيش بالابتعاد عن بيت الطبيب، وقد اتصلوا به ليخبرهم بصوت مكسور إن الدبابة غادرت المكان ويشكرهم على جهودهم. لم تنته القصة بل عادت الدبابة إلى البيت في يوم الجمعة، أول من أمس، وهذه المرة لم يكن أبو العيش في البيت، ولم يكن معه وقت لأن يخبر أحدا بما جرى: فقد أطلقت الدبابة حمم قذائفها على البيت، وقد كاد الطبيب أن يفقد صوابه وهو يحصي عدد الإصابات ويتنقل بين الضحية والأخرى.
لم يرث لحال الدكتور أهله وأقربوه فقط بل رثى لحاله كذلك زملاؤه في مهنته الأولى من الإسرائيليين، بوصفه طبيبا، كما لفت أنظار بعض الصحافة في تغطيته لمآسي الحرب. وقد كتب الصحافي زهافي مقالا عممه على عدة صحف ومواقع في الإنترنت يقول فيه إنه يخجل من كونه إسرائيليا بسبب حادثة اغتيال بنات الدكتور أبو العيش. كما اتصل به مدير المستشفى الإسرائيلي الذي يعمل فيه باحثا، البروفسور زئيف روتشتاين، ليطمئن على حالته فوجده منكوبا حزينا يتردد بين بناته القتيلات وابنته الجريحة، وبدأ حملة لجلبه والجرحى من أقاربه إلى المستشفى لتلقي العلاج، ونجح في ذلك بمساعدة صحافيين وصلوا إلى المستشفى، وحاول الجيش والشرطة منعهم من الدخول لمعرفة تفاصيل الجريمة، فأعلنوا الاعتصام أمام الغرفة حتى سمح لهم